اخر الاخبار

آخر الأخبار

في زنزانةِ الحياةِ إنسان… بقلم: أيمن قدره دانيال

 


قصة قصيرة/


في زنزانةِ الحياةِ إنسان… 


وقف يتأملُ حالة الصمت المظلم، تلفت حوله في استدارة المكان، تساءل بصوت خافت أين أنا.!؟ هل أنا في الجنة أم في النار، هل مت أم ما زالت حيٌّ يُرزَق، تحسس أطراف جسده، قرص نفسه فشعر بألم القرصة تلسع كف يده، صرخ محاولًا الخروج من عتمت الظلام إلى نور الحياة، فتردد صدى صوته المتلاطم في جدار الصمت المخيف، خرج صوت غليظ مع خبطة قوية تزلزل الأرجاء، أخرس أم تريد أن أقطع لك لسانك من لغلوهِ، خيمت عليه رهبة الاستماع، فجلس على الأرض بوضعية القرفصاء، يفكر في مجريات الأحداث وما أوصله إلى هذا الشعور، ساهر ابن الخامسة والعشرين عامًا طالب متخرج من جامعة حلب، يدرس الطب البشري كان يعالج المرضى بإنسانيته المعهودة وقد عرف عنه بأنه السباق إلى فعل الخير ومراعاة أحوال الناس وبالأخص الفقراء منهم، في مشفى الرازي ومع بداية الأحداث في الثورة السورية العام 2011 توجه ساهر في الصباح الباكر نحو نداء الواجب الإنساني ملبيًا طلب استدعائِه للمشفى، أثرى حالة طارئة تستدعي حضوره فاستقلا إحدى وسائل النقل العام متجهًا إلى مكان عمله، دخل ساهر غرفة الطوارئ بعد أن حضرَ مع زملائهِ والكادر الطبي، فوجد شخصًا مُستلقٍ على تذكرةِ المشفى والدماء تغطي صدره وتغسل وجهه ويداه، قال أحد المسعفين ممن جاء معه… دكتور لقد أصيب بطلق ناري خلال تواجده في مظاهرة تهتف لإسقاط النظام، طلب ساهر من الممرضين فتح غرفة العمليات فورَ تجهزيها واصطحابه إليها، ثم توجه هو وزملاؤه الأطباء لغرفة الملابس والتعقيم، ساهر لدكتور التخضير: ضع كَمية كافية من المخدّر وراقب ضغط دمه، طلب من أحد مساعديه أن يعطيه المشرط بعد أن قص له قميصه، ومسح صدره بالمعقم ثم طلب منه القطن وقال له: جفف دماء صدره، كان وجه ساهر يتصبب عرقًا وإحدى الممرضات تمسح له عرقه بإحدى قطع الشاش المعقم، كانت غرفة العمليات تشبه الواحة الخضراء، بعد أن اكتسبت خضرة المكان فالداخل إليها يخوضُ تحدٍ كبير وصراع محتدم ما بين الموت والحياة، فجأة قال طبيب التخضير: دكتور ساهر إننا نفقد المريض فضغط الدَّم بدأ بالارتفاع ونبضات قلبه تتسارع شيئًا فشيء، قال له ساهر راقب نبضه جيدا لقد شارفنا على الانتهاء، قال للمرضه سلوى أضيف كيسًا أخر من أكياس الدَّم وحافظي على توازن انسيابه وهو يخرج رصاصة قناصٍ غادر من صدرِ المصاب، الحمد لله تم إنقاذه قال ساهر بعد أن نزع الكِمامة عن وجهه وهو يبتسم فرحًا بنجاح عمليته ثم قال للمساعدين المتواجدين حوله أخيطوا الجرح ثم انقلوا المريض لغرفة العناية المشددة وضعوا المصاب تحت المراقبة مدة 24 ساعة، خرج ساهر من غرفة العمليات فلحقت به الممرضة سلوى قائلة: كان أداؤك جميلًا اليوم لقد أنقذت حياة إرهابي أخر، نظر إليها ساهر برمقة الازدراء والمقت ألم تكفي عن ملاحقتي ما الذي تريدنه مني يا سلوى قالت أنت تعلم ماذا أريد فإمّا أن تخضع لي وإمّا أن أخضعك رغمًا عن أنفك قال لها ساهر: أنا لست من هذا النوع من البشر فأنا أخاف ربي وأواظبُ على صلواتي الخمس ابحثي عن بغيتك مع شخص أخر غيري، قالت سلوى بامتعاض وغضب ستندم…!


سار ساهر بخطوات متسارعة متجهًا نحو غرفة تبديل الملابس والتعقيم، وفي ذهنهِ الكثير من الفكر المتشتت والقلق وهو يُقلِبُ كلماتها في مفكرتهِ العقلية، ماذا كانت تقصد تلك الحمقاء بكلامها لا… لا مستحيل معاذ الله، لتفعل ما تريد أنا لست نادمًا ولا أخاف من تهديداتها…

سلوى ابنة ضابطٍ متقاعدٍ تربت على فسادِ الأخلاق، فعلاقة أبيها بالسلطة ما تزال مجذرة العهد، في حين أمها المطلقة تسافر من بلد إلى أخر طمعًا في تكبير حجم ثروتها، فهي تهتم بالمظاهر والعلاقات الفارهة أكثر من اهتمامها بابنتها، ولهذا تربت سلوى في بيئة الأبُ الذي كان يأتي بالنساء إلى منزله ويغلق عليه باب غرفته في حين أن سلوى تقف خلف الباب لاستراق السمع، وبينما كان ساهر يغسل يداه في غرفة التعقيم من أثار الدماء، همس له أحد الزملاء في أذنه قائلًا : إنها تحبك بجنون يا دكتور، نظر ساهر نحوه ثم قال: وأنا يا دكتور عاطف أحب الله أكثر

قال: عاطف ما بك أنا أمازحك فقط ولكن برغم ذلك لن تدعك وشأنك من الأفضل لك ترك هذا المشفى.

له قال ساهر بثقة: لن يضرك أحد في شيء لم يرده الله لك ولو اجتمعت عليك شياطين الجن والأنس.

قال عاطف: والنعم بالله لكن خذ بالأسباب وإني لأرى بأنها تضمر لك الشر والله أعلم بما حوته النفوس.

عاطف دكتور التخضير يبلغ من العمر الثلاثين عامًا خريج جامعة حلب من كُلِّيَّة الطب البشري، كان شاهدًا على أفعالِ الممرضة سلوى، مع الكثير من زملائه لكنه لم يجرؤ على قول الحقيقة، لساهر خوفًا من المصير المجهول الذي كان يطال الرافضين لسلوى ومحاولاتها الخبيثة في اصطياد ضحاياها.

خرج ساهر من المشفى بعد أن انتهت مدّة دوامه المعتاد والكلمات تضج في رأسه، لكنه في قرارة نفسه كان الواثق بالله والمتوكل عليه، شعر بدوار خفيف فوقف عند بائع العصير وطلب كوبًا من عصير البرتقال، ثم مضى إلى منزله مستقلًا الحافلة، وقف إزاء باب منزله ومد يده ليخرج المفتاح فسقطت عَلاقة المفاتيح من يده أرضًا، ففتحت الأم الباب ورأت ابنها مُستلقٍ على الأرض

بعد سماعها لصوتِ المفاتيح خلف الباب، ساهر بُني أهذا أنت قم يا حبيب أُمك وأتكأ على عليّ، مُحاولًة إدخاله للمنزل ثم صرخت الأم بصوتٍ مرتفع يا أبا ساهر… يا أبا ساهر أغثني جاء والده على الفور بعد أن أغلاق كتابه فزعًا "من صوت الأم، ما به يا أم ساهر!؟ "لا علم لي احمله معي للداخل، ادخلاه إلى غرفته ووضعاه على السرير، قال لها الأبُ: احضري لي حقيبتي الطبية بسرعة، لا تقلقي مجرد هبوط في ضغط الدَّم، أخرج الأبُ ميزانه لقياس ضغط الدَّم لساهر، فهو طبيبٌ قديم في مشفى الجامعة وقد ورث ساهر عنه مهنته للجراحة العامة.

كما توقعت هبوط في ضغط الدَّم، قال ساهر: لا تقلقوا أنا بخير… أنا بخير بعد أن أفاق من الدوار، قالت الأم: موبخةً ساهر، ألف مرةٍ قلت لك ألّا تخرج من المنزل دون فطار، قال الأبُ: دعيه الآن يا أم ساهر فهو يحتاج إلى الراحة، أنبيه فيمَا بعد واذهبي وأعدي له شيئًا ليأكله ريثما ينضج الغداء،

قال ساهر: أنا أسف يا أمي لكنه نداء الواجب وهو يحتم عليَّ أن أنقذَ أرواح البشر، "فمن أحياها كأنما أحيا الناس جميعًا"

قالت الأم: وهي تغادر غرفة ساهر متجهة نحو المطبخ" أحيها أنت وأهمل نفسك كي تموت أيها المجنون"

قال الأبُ: خوف الأم وقلقها عليك يا بني يفقدها أعصابها أحيانًا، لكنني برغم ذلك لم أعنفك أمامها، وأمك على حق لا تهمل نفسك في أثناء تأديتك لواجباتك الإنسانية، فإن لنفسك عليك حق أيضا يا بُني "ولا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة"

ابتسم ساهر وقال: أعلم أنك قد فعلتها سابقًا يا دكتور أنور فدع الطابق مستور.

ضحك الأبُ وساهر معًا في حين كانت الأم تتجه نحو غرفة ساهر وفي يديها سفرة مدججة بالأطعمة، قالت الأم للأب: أضحك جينات بالوراثة، عليه بأكل هذا الطعام كله ودون نقاش مفهوم، قال الأبُ: تمام يا فندم…

نظر ساهر نحو أبيه متهكمًا فأشار إليه بالصمت ثم قال: طلبات أمك أوامر وليس باليدِ حيلة كُلْ ثم خذ قِسطًا من الراحة، هيا يا أم ساهر لندعه يرتاح قليلًا سوف يأكل الطعام كله لا تقلقي هو بخير.

في صباح اليوم التالي نهض ساهر من فراشه وغسل وجهه ونظف أسنانه ثم رتب سريره وراح يبدل ثيابه مستعدًا للذهاب إلى المشفى كانت غرفته تحتوي على مكتبة صغيرة بنية اللون للمراجع والبحوث الطبية وطاولته مستطيلة الشكل يضع عليها حاسوبه وبعض الأوراق والأقلام، تسلل من غرفته بحذر شديد وهو يسير على رؤوس أصابعه كالمعتاد متجهًا نحو باب المنزل، لكن الأم المتيقظة والحذرة من تصرفات ساهر كانت له بالمرصاد فتح ساهر الباب ببطء وشهق من فزع المنظر، أمي أهذه أنت أفزعتني إلى أين تظن أنك هارب دون فطار، أنا لن أهرب يا أمي لكنه عملي وهم بحاجة إلي في المشفى، لن تخرج هذه المرة قبل تناول وجبة الطعام، يا أبا ساهر أين أنت أنجدني، دعيه يا أم ساهر فنحن الأطباء معتدون على ذلك، قلت لا عليه أن يأكل أولا قبل خروجه، ليس بيدك حيلة قال الأبُ: علينا بالرضوخ أحيانا لسيدة المكان، قال ساهر: أعدك بتناول وجبة خفيفة وأنا في طريقي إلى المشفى قَبَلَ ساهر أمه وخرج مسرعًا نحو عمله، قالت الأم ماذا أفعل بهذا الصبي سوف يفقدني صوابي يومًا ما، قال الأبُ: صبي.!!، قالت: نعم مازال صغيرًا في نظري حتى وإن بلغ سن السبعين، قال الأبُ: كان الله في عونك يا ساهر، قالت الأم ماذا تقول.!؟

قال: لم أقل شيئا، بل قلت لندعو له بالخير والتوفيق وأن يعود لنا سالمًا فأحداث البلد تزداد أثاره يوم بعد يوم، وأخاف على شباب هذه الأيام من التورط فيها مع قناعتي أننا نحتاج إلى التغيير فقد شاع الفساد بين العباد وفقد الحاكم عقله، قالت الأم: اسكت مالنا وللسياسة دعها بعيدة عن ابني حماه الله من كل شر.


نزل ساهر أمام المشفى من حافلةٍ كانت تقله وقبل دخوله من باب المشفى ودون سابق إنذار، تلقى ضربةً قويةً على رأسه من الخلف، أفقدته وعيه ليسقط مغمًا عليه بعد أن صرخ قائلًا: آه يا رأسي.

في ذلك اليوم وبعد رفض ساهر لسلوى اتصلت بأحد الفروع الأمنية معرفة نفسها بانها ابنة اللواء حسام، وقد قدمت بلاغًا كيديًا بحقه واتهمته بأنه يعالج الثوار والمصابين الذين يفرون من جيش النظام، ويستر عليهم دون الإبلاغ عنهم والإفصاح عن الحالات المصابة بطلق ناري الذي يتم إسعافها للمشفى فهو أحد الإرهابين الذين يسعون لقلب نظام الحكم.

كان ألم الضربة موجعًا في رأس ساهر وقد أحدث جرحًا طفيفًا في فروةِ شعره مع نزيف الدماء السائل على رقبته وأذناه وضع ساهر يده وتحسس جرحه قائلًا: الحمد لله ليس عميقًا، سمع صوتًا للأقدامِ تتجه نحو باب زنزانته فشعر بشيء من الريبة، فتح الباب بعنف وكأنه باب لأحدى القلاع القديمة المعروفة بصدأ أبوابها وصريرها المتهالك عبر الزمن.

قف واستدر نحو الجدار قال أحد العناصر، نهض ساهر من فورهِ وفعل ما طُلِبَ منه فعصبوا عينيه وقيدوا يديه بالأصفاد الحديدة واصطحبنه معهم خارج الزنزانة في ممرٍ طويل يتخلله درج، قال أحد المساجين الذي كان في الزنزانة المجاورة: يا حرام إنه شاب صغير أين تأخذون عمره يا كفرا، قال السجان: أخرس وأطبق عليك فمك قبل أن يتهشم، مضوا به نحو غرفة التحقيق وأقعدوه على كرسي خشبي له أشواكًا من الحديد المدبب ليست بحادة، لكن الجلوس عليها لم يشعره بالراحة مطلقًا، فجأة سمع صوتًا يقول للعناصر أخرجوا وتركونني معه، قام من خلف مكتبه متجهًا نحو ساهر ووقف أمامه بعد أن خرج جميع العناصر من غرفة التحقيق وأغلق الباب، ثم قال:

أنت دكتور إذًا… للحمير دكتور أنت يا حيوان، أجابه ساهر: أنا لست حيوانًا بل إنسان وإذ بصفعاتٍ كثيفةٍ تنهال على ساهر مع ركلات متسارعة على جنباته وبطنه ويداه، سقط ساهر مع كرسيه على الأرض وهو يسمع صوت جرس يرن، بعد لحظات فُتح الباب ودخل عنصر وقد أدى التحية قائلًا: احترامي سيدي

قال ضابط التحقيق خذ هذا الكلب الإرهابي لغرفة الدولاب وافعلوا معه اللازم، وقدموا له واجب الضيافة ثم فقع ضحكةً شريرة لم يسمع ساهر قبلها مثيلًا من قبل.


حلب 2024/12/16

أيمن قدره دانيال

ليست هناك تعليقات

مرحبا بكم في الموقع الإعلامي للمنتدى الثقافي الدولي شكرا لتواصلكم معنا ولمشاركتكم الفاعلة
Welcome to the media site of the International Cultural Forum. Thank you for contacting us and for your active participation